Monday, July 27, 2009

الخصخصة: ما لها وما عليها


زياد حافظ*
كاتب وباحث جامعي ومدير تحرير مجلة "شؤون عربية معاصرة"
*

فيما تغرق النخب السياسية الحاكمة سواء كانت من الأكثرية البرلمانية أو من "المعارضة" في لبنان في متاهات تأليف الحكومة يغيب عن خطابها السياسي الملفّ الاقتصادي والاجتماعي. هذا لن يعفينا عن مسؤولية إلقاء الأضواء على بعض الملفات الاقتصادية السياسية الاجتماعية لما لها من تأثير مباشر على حياة المواطن اللبناني بغض النظر عن إمكانية نجاح أو فشل محاولات إقرار بعض "التغييرات" أو ما يسمّى با"لإصلاحات" في سياق التوازنات السياسية القائمة* من هذه الملفّات قضية الخصخصة المطروحة سواء من منطلق "عقائدي" أو من منطلق سياسي وفقا لقرارات باريس 1 أو 2 أو 3. فالاجتماعات الدولية المرقمة "لإنقاذ لبنان" اقتصاديا عقدت في سياق دولي وتوازنات دولية محددة إما تغيّرت وإما سقطت بعد ما شهدناه من أزمات مالية واقتصادية عالمية وارتداداتها السياسية عالميا وإقليميا. فنموذج العمل القائم حتى انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية الدولية لم يعد ذلك النموذج الذي يمكن أن يقتدى به الآن. فذلك النموذج النيوليبرالي الذي ظهر في أوائل الثمانينات مع الحقبة الريغانية والثاتشيرية وصل إلى طريق مسدود. كما أن الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية قضت على نظرية صوابية نظام السوق الحر والنظام التنافسي القائم نظريا في عالم الاحتكارات والتكتّلات الاقتصادية العملاقة عندما أوجبت ضرورة الرقابة وضبط الأمور من قبل الدولة. لذلك نرى تلك التكتلات الاقتصادية المالية العملاقة تلجأ إلى الدولة التي عملت المستحيل على تقليص دورها ونفوذها في الحياة الاقتصادية وذلك لإنقاذها من الإفلاس الذي يحدّق بها. طبعا هناك من يستمرّ في الدفاع عن النظام الاقتصادي النيوليبرالي إلا أن المأزق الذي وصل إليه ذلك النظام يفوق قدّرات البنى الاقتصادية والنظم القائمة على إيجاد الحلول لقضايا البطالة المزمنة والتفاوت الاجتماعي وتفشي ثقافة الريع التي تؤمن بإنتاج الثروة بدون مجهود عبر الصفقات والمضاربات والاستدانة المتفاقمة التي تشجع ثقافة استهلاكية دون مقابل في العمل والمجهود والمخاطرة. لكن هذا حديث يخرج عن نطاق البحث إلاّ أنه يشكّل خلفية للوحة التي تتعلّق بالخصخصة موضوعنا هنا.
حاولت الاجتماعات والمؤتمرات الدولية المنعقدة منذ بداية الألفية الحالية فرض الخصخصة كجزء من ذلك النموذج النيوليبرالي على لبنان وإن كان لبنان في الأساس غير بعيد عن ذلك النموذج وذهنية السوق الحر والتنافس النظري. وبالتالي هناك محاولات حثيثة لنزع ما تبقىّ من إمكانيات للدولة في الاقتصاد الوطني عبر إخراجها من الدورة الإنتاجية بواسطة الخصخصة لبعض المرافق الحيوية الإستراتيجية كالهاتف والكهرباء والمياه والمطار والمرفأ إلخ.
أما الأسباب التبريرية للخصخصة فهي مبنية على خلفية فكرية ناتجة عن فلسفة أو رؤية معينة لتسيير الأمور ظهرت في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، حيث جرت منذ تأسيسها نقاشات وسجالات حادة بين من يعتقد أن الدولة الناجحة هي الدولة الأقل تدخّلا في شؤون المجتمع وبالتالي يجب تقليص دورها إلى أبعد حد ممكن في القضايا الاقتصادية وتسيير الأمور. ومازال ذلك النقاش قائما حتى اليوم ينعكس في الخطاب السياسي بين من يُنعتوا بالمحافظين وأرباب تقليص دور الدولة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وبين الليبراليين الذين يريدون للدولة دورا أكبر في التسيير الاقتصادي والاجتماعي. والآخيرون –أي الليبراليون بالمفهوم الأميركي- يريدون فرض القيود الضابطة على النشاطات الاقتصادية بحجة جموح وجشع القطاع الخاص على حساب المصلحة العامة أو لتصحيح ما يسمّى بإخفاقات آليات السوق التي لا تصحح تلقائيا انحرافاته كما يزعم أرباب السوق الحر. ويجدر الإشارة أن الأب الروحي للاقتصاد الحر آدم سميث حذّر من انحرافات السوق وجشع القطاع الخاص كما جاء في مؤلفيه الشهيرين: نظرية الشعور الأخلاقي (Theory of Moral (Sentiments والبحث في أسباب ثروة الأمم (An Inquiry into the Origins of the Wealth of Nations ). وشهدت الحقبة السابقة منذ الثمانينات من القرن الماضي حتى حدوث الأزمة الاقتصادية المالية الحالية تغلّب وجهة نظر المحافظين. والترويج الفكري لتلك وجهة النظر قام به مجموعة من الجامعيين العاملين في جامعة شيكاغو مثل ليو سترواس (الأب الروحي للمحافظين الجدد) وميلتون فريدمان صاحب نظرية الصدمة الإقتصادية التي تأتي بعالم جديد ومفاهيم جديدة. كما لا يجب أن نغفل دور المفكر الاقتصادي النمساوي فريدريتش فون هايك ومؤلفه الشهير "الطريق إلى العبودية" The Road to Serfdom)) وتأثيره على فكر مارغاريت ثاتشر (نفت وجود مجتمع بل مجموعة أفراد!) شريكة رونالد ريغان في نشر ثقافة اللبيرايلية الاقتصادية الجديدة. فانتشرت في المؤسسات الدولية التابعة لنفوذ الولايات المتحدة وبريطانيا أي صندوق النقد الدولي ومجموعة مؤسسات البنك الدولي. لذلك ظهرت في معظم اقتصادات الدول المتقدمة موجة من الخصخصات التي حوّلت العديد من المرافق العامة من ملكية وإدارة الدولة إلى الملكية والإدارة الخاصة. كما أن المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية الآنفة الذكر والمصرف الأوروبي للإستثمار على سبيل المثال وليس الحصر، حاولت واستطاعت فرض تلك الرؤية على العديد من الدول الناشئة كشرط أساسي مسبق لتوفير المساعدات التنموية (هكذا يسموّنها إلا أنها ليست إلاّ إجراءات تزيد في تبعية تلك الدول لمراكز القرار الدولي ولكن هذا حديث آخر!). من هنا نفهم سياق المؤتمرات الدولية التي عقدت مبدأئيا من أجل لبنان (مؤتمرات باريس المرقمة وقمة روما بعد العدوان الإسرائيلي عام 2006).
أما السبب الثاني للخصخصة فهي مبنية على أولوية القطاع الخاص في عملية النمو والتنمية. و هذه الأولوية تقوم على فرضية أساسية هي أن الدولة أقلّ كفاءة من القطاع الخاص في تشغيل الدورة الاقتصادية لأن حافز الربح وآلية الأسعار هما الوسيلتان الأساسياتان لترشيد القرارات الاقتصادية وتوزيع الموارد في النشاطات الأكثر كفاءة والتي تجني أحسن مردود. ويسترسل مروّجو تلك النظرية/الفرضية أن الدولة في تكوينها فاسدة خاصة في الدول الناشئة ولبنان خاصة وأن الهدر والصفقات هو من سمات الدولة التي تعجز عن توفير أبسط الخدمات. وبالتالي فعلى الدولة أن تخرج من دائرة الإنتاج وتكتفي بالرقابة على النشاط المخصخص! وبالفعل هناك أدلّة واضحة يمكن من خلالها إدانة الدولة في إخفاقها في تقديم الخدمات المطلوبة وفقا للمعايير التي ذكرت من حيث الكفاءة وقلة الترشيد والهدر الناتج عن ذلك. ولكن بالمقابل يُوجد ردٌ على ذلك يعرض في فقرة لاحقة.
الحجة التبريرية الثالثة ناتجة عن الحجتين السابقتين. فهي ترفع عن كاهل الدولة أعباء مالية كبيرة فيمكن عندئذ تحويل مواردها لاستعمالها في أماكن أخرى. صحيح أن الخسارات المتتالية في مصلحة كهرباء لبنان تشكّل مصدرا أساسيا في تكوين الدين العام الذي وصل إلى أرقام قياسية. إلاّ أن تلك الخسارات يمكن تجنبها في حال تحقيق ترشيد المصلحة وحثّها على العمل بعقلية التوازن بين الربح والمصلحة العامة وتحميل المسؤولين فيها النتائج المحققة.
غير أن الحجة الأقوى لمفهوم الخصخصة – وهي الحجة الرابعة - هو ترسيخ التنافس المفقود بسبب احتكار الدولة للمرفق الاقتصادي الذي تشغّله.
وإذا كان هناك إجماع لفظي على إدانة الاحتكار إلا أن النفاق الفكري في هذا الموضوع يُغيّب طرح الهدف المعلن وغير المعلن لأرباب القطاع الخاص أي زيادة الأرباح وإن كان على حساب تقلّص التنافس بزيادة الممارسات الاحتكارية. من طرائف الدعوة إلى الخصخصة ضرورة تأمين الاحتكار للفريق الذي سيحظى بالمؤسسة التي يتمّ نقل ملكيتها وإداراتها له. فلن يقبل ذلك الفريق أن تعطي الدولة تراخيص لمؤسسات تنافس المؤسسة المخصخصة. فإذا كانت الدولة "غير كفؤة" في إدارة المشروع إلا أنها "كفؤة" في حماية الاحتكار الخاص! إذن ليس هناك من ضمانة بأن الخصخصة ستزيد من التنافس في القطاع المخصخص خاصة وأن الشركات "المتنافسة" قد تتواطئ لتكريس الممارسات الاحتكارية في ضبط حصص السوق والأسعار وتجنب التنافس المدمّر للأرباح. وفي المحصّلة يتمّ استبدال احتكار الدولة باحتكار القطاع الخاص دون الوصول إلى التنافس الذي يستفيد منه المواطن المستهلك.
من جهة أخرى لا بد من الإشارة إلى أن عمليات الخصخصة في الدول الناشئة تحصل دائما لمصلحة المقرّبين من السلطة سواء عبر مؤسساتهم الخاصة أو عبر الوكالات الحصرية أو التمثيل الحصري لشركات أجنبية. فالذي يتمّ عادة هو إعطاء المرافق الحيوية إلى شركات أجنبية تتضارب مصالحها مع مصالح الشعوب في تلك الدول. والحجة في ذلك قلّة الخبرة والمهنية من قبل القطاع الخاص الوطني في إدارة المرفق الاقتصادي المرشح للخصخصة. وبما أن الفساد في الدولة هو أحد المبررات الرئيسية للخصخصة فالسلطة الرقابية التي تواكب عملية الخصخصة تصبح وهما بسبب تدخّل أصحاب النفوذ وارتباطهم مع الشركات الأجنبية لمصلحة الشركات.
إن الخصخصة التي تؤدي إلى تسليم المرافق العامة لشركات أجنبية بشكل تام أو جزئي مع شركاء صوريين محليّين عبر حجة ضرورة إيجاد شريك إستراتيجي دولي معروف بكفاءته ومهنيته ليست إلا وسيلة ملتوية لإخضاع القرار الاقتصادي الوطني للمشيئة الخارجية وتكريس تبعية الوطن لمراكز القرار الخارجي. وهناك شكوك قائمة حول ارتباطات بعض الشركات بمصالح متناقضة مع الأمن الوطني والقومي خاصة في قطاع المواصلات حتى في مؤسسات ما زالت خاضعة لملكية وسيطرة الدولة فما بال الحال إذا خرجت عنها كلّيا؟! إن المصلحة الوطنية لن تتحقق عبر ما يُسمّى بالاستثمار الخارجي خاصة وأن الإدخار الوطني لم يتمّ تعبئته وتوظيفه في المشاريع التنموية. إن النظام القائم منذ جمهورية الطائف حوّلت الإدخار اللبناني إلى توظيفات- وليست استثمارات- في سندات الخزينة التي وفرّت دخلا ريعيا لحامليها على حساب الإستثمار في المشاريع التنموية الحقيقية. ودراسات الوزير المالي السابق الدكتور جورج قرم حول الدين العام والقطاع المصرفي تفضح الإنحرافات التي حصلت في ذلك الموضوع. فإذا كانت مداخيل النظام المصرفي اللبناني من عائدات سندات الخزينة تصل إلى 42 بالمائة عام 2006 من إجمالي مداخيل المصارف فلماذا نتوقّع عندئذ أن يقوم النظام المصرفي اللبناني بدوره في تمويل المشاريع الإنتاجية وخاصة تلك التي لها الطابع التنموي وتتحمّل أعباء المخاطرة ومشقّة البناء ومواكبة المشروع؟
أما مقولة ضرورة إيجاد الشريك الإستراتيجي الأجنبي في مشاريع الخصخصة فهي من "مقترحات" المؤسسات المالية الدولية وخاصة مجموعة مؤسسات البنك الدولي ونقول ذلك بكل ثقة لما لدينا من خبرة مهنية ممتدة إلى أكثر من عقد مع تلك المؤسسات. فنظرية ضرورة الإستثمار الأجنبي لتمويل التنمية بسسب غياب أو تغييّب الإدخار الوطني وضرورة الخصخصة عبر الشريك الخارجي لمكافحة الفساد المزمن في الدولة والهدر ليست إلا تغطية لخلفيات سياسية هدفها السيطرة على موارد ومرافق الدول الناشئة ولمصلحة الشركات الدولية العملاقة العابرة للقارات وللجنسيات.
وهنا بيت القصيد في حجة "الفساد المزمن" في الدولة التي تثير تساؤلات عديدة. فإذا كانت الدولة فاسدة في إطار الدورة الاقتصادية وعبر نشاطها وإداراتها للمرافق الحيوية فهل هي "صالحة" في الميادين والقطاعات الأخرى وخاصة في إطار الرقابة العامة على المصلحة الوطنية؟ وفي بلد كلبنان هل هناك من يضمن النزاهة في الإدارة العامة والقضاء والأمن والدفاع في ظلّ النظام السياسي القائم؟ خاصة وأن الخطاب السياسي للنخب يشكّك دائما في نزاهة القضاء (من هنا كان اللجوء إلى المحكمة الدولية لمحاكمة المسؤولين عن إغتيال الرئيس رفيق الحريري)، أوالتشكيك في قدرات القوى الأمنية والدفاعية في الدفاع عن الوطن (ومن هنا كان "تلزيم" مقاومة الإحتلال الصهيوني لفئة من اللبنانيين).
والجدير بالذكر أن موجة خصخصة الخدمات التي تقدمها الدولة لا تقتصر على المرافق الاقتصادية بل يمكنها أن تمتد إلى رموز السيادة والكيان. ففي الولايات المتحدة، الدولة الرائدة في الليبرالية الجديدة، هناك موجة خصخصة لقسم كبير من وظائف ومهام الجيش. والمنطق الطبيعي لخصخصة الأمن القومي عبر تلزيم ما يمكن من "خدمات" ومهام للقطاع الخاص يؤدي إلى عسكرة المجتمع وهي ظاهرة متنامية في الولايات المتحدة أشرنا إليها في العديد من الأبحاث والمقالات منها تلك التي نشرتها مجلة "المستقبل العربي" في عدد شهر آب 2004. هذا هو أحد معاني ظاهرة الشركات الأمنية التي ولدت في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة وامتدت إلى العراق ولبنان. وبالتالي يصبح السؤال ما هي حدود الخصخصة وأين تقف؟ فمنطق فساد وعدم كفاءة الدولة يمكن تعميمه على كافة نشاطات ومهام الدولة مما يؤدي في آخر المطاف إلى تقليص الدولة إلى رموز شكلية أو تافهة إن لم يكن إلى إلغائها بشكل جزئي أو كامل.
في نفس السياق أود طرح سؤال يروادني منذ فترة طويلة. لماذا تنازلت الدولة عن إحدى أهم ميزات السيادة وهي الحق الحصري في إصدار النقود؟ الكتلة النقدية في لبنان كما في جميع الدول مكوّن من النقد المتداول التي تصدره الدولة وإجمالي الودائع التي ينتجها النظام المصرفي وهو الذي يشكّل النسبة الأكبر! هكذا نعلّم طلاّبنا في الجامعات. أليس ذلك خصخصة- وإن لم تكن كاملة -في حق إصدار الكتلة النقدية؟ وهل كانت السياسات النقدية سواء في لبنان أو في الخارج سليمة؟ ألم تكن تلك السياسات التي تخرج عن السيطرة الكاملة للدولة والتي يشاركها النظام المصرفي مسؤولة عن تدهور النموذج الاقتصادي في النظام الاقتصادي والمالي العالمي؟ سؤال أطرحه دون أن أقدّم إجابة عليه على الأقل في هذه المداخلة. إن الغرض من هذا السؤال هو التحذير من عدم تحديد آفاق الخصخصة إذا كان لا بد منها. فسيادة الدولة وحتى وجودها مهدد فكيف يستقيم الحديث عن الخصخصة وبناء الدولة؟ ففي لبنان ليس هناك من دولة بالمعنى المتعارف عليه في العلوم السياسية بل سلطة تتقاسمها الطوائف والمذاهب وفقا لموزاين قوى قد تكون ظرفية أو غير ذلك. ومن هنا يمكن طرح السؤال ما هو مصير وشكل الخصخصة في ظلّ المحاصصة المنبثقة عن نظام يُسمّى بالديمقراطية التوافقية حيث السلطة الرقابية لمؤسسات الدولة تخضع لاعتبارات خارجة عن المفهوم المؤسسي للدولة بل لمرجعيات طائفية مذهبية غير خاضعة للمسائلة والمحاسبة؟
والمسألة ليست مزاج أو تنظير خارج الواقع. تجدر هنا الإشارة إلى دراسة أعدتها المنظمة العربية لمكافحة الفساد حول إمكانية تحسين أداء الرقابة المالية في الوطن العربي توّجت بندوة على مدى يومين في شباط 2009 حضرها العديد من الخبراء الاقتصاديين ومن المسؤولين عن منظمات دولية. تناولت الندوة النقاشية الرقابة المالية في خمس دول عربية منها لبنان. ومن نتائج تلك الدراسة عن لبنان أن السلطة الرقابية المنصوص عليها في الدستور اللبناني وفي العديد من التشريعات اللبنانية معطّلة ومهمشّة بسبب طبيعة النظام السياسي القائم على المحاصصة التوافقية. فالسلطة الرقابية البرلمانية والقضائية والإدارية على الأداء المالي للدولة معطلّة باعتراف المسؤولين السابقين والحاليين في تلك المؤسسات الرقابية مما يجعل الدور الرقابي المرتقب للدولة في إطار الخصخصة أقلّ فعّالية وحفاظا على المصلحة العامة. والجدير بالذكر أن تلك الإستنتاجات لم تكن مقتصرة على لبنان بل موجودة في جميع الدول التي تمّ مسحها كمصر واليمن والأردن والمغرب. فالتشريعات والتنظيمات الموكلة بمهام الرقابة المالية جيدة ومقبولة من حيث النص ولكن لا تُطّبّق في الواقع. ومن وقائع تلك الدراسات ما جاء في الورقة عن مصر حيث تناول فريق العمل المكلف شكل وتداعيات الخصخصة التي طبّقت وحجم الفساد والهدر الحاصل بسببها.
بناء على ذلك ليس في الواقع العربي بشكل عام والواقع اللبناني بشكل خاص ما يشجّع على سلوك طريق الخصخصة. حتى الآن لم نتناول البعد الاجتماعي للخصخصة الذي يتّم دائما على حساب العاملين في المؤسسة المرشحة للخصخصة. فالخصخصة تتنافى مع أبسط قواعد العدالة الاجتماعية وهذا أمر يصعب القبول به. هناك نظرة متعالية في أحسن الأحوال تجاه العاملين المنعوتين باللامبالين وغير الكفؤين والمصدر الأساسي للخسائر التي تتكبدها المؤسسة المرشحة للخصخصة. صحيح أن المؤسسات الدولية التي تدفع إلى الخصخصة ترصد مبالغ تعويضية للعاملين الذين يتمّ تسريحهم غير أن هذه التعويضات لا تكفي لإعادة تأهيلهم هذا إن كانت هناك فرص في الأساس لإعادة استيعابهم. لكن الخلفية العقائدية لتلك الممارسات هي إلغاء حق العمل وضمان الوظيفة. فالمنطق الليبرالي الجديد لا يرحم العامل وينظر إليه كسلعة يمكن استهلاكها ورميها بسهولة دون مراجعة ومساءلة ومحاسبة وفقا لمنطق اقتصاد السوق الحر. هناك تقديس لرأس المال وصاحبه وتحقير للعمل والعامل. القيمة المضافة التي ينتجها العامل بعرق جبينه هي من حصة صاحب رأس المال وليس على العامل إلا أن يكتفي بالراتب أو الأجر الذي يتكرّم عليه صاحب رأس المال. الخصخصة لا تحترم مجهود العامل بل تحاول تقليص إلى أكبر حدّ ممكن حقوق العامل في الناتج الذي يحققه. وليست في التشريعات العماّلية القائمة والتي غالبا ما تعدّل لمصلحة أصحاب رأس المال ضمانات لحقوق العاملين في نظام الليبرالية الجديدة حيث يتّم القضاء على النقابات أو تهميشها أو تحييدها من أي دور فعّال لمصلحة العاملين.
الخصخصة في رأينا ليست ضرورية وليست كافية لحلّ معضلة تقديم الخدمات التي تخفق الدولة في تقديمها. الحلّ هو في ترشيد الإدارة ومكافحة الفساد المتفشي فيها. والفساد ليس حكرا على الدولة بل هو موجود أيضا في القطاع الخاص. الفضائح المالية في الدول المتقدمة (إنرون مثلا) وفي لبنان (فضيحة بنك المدينة مثلا) خير دليل على ذلك. ولا بد من ذكر تطوّر هام حصل منذ فترة في تفكير البنك الدولي تجاه الخصخصة. فحقبة الثمانينات والتسعينات التي شهدت رضوخ العديد من الدول الناشئة لإملاءات البنك الدولي في ضرورة خصخصة المرافق الاقتصادية الأساسية كقطاع الكهرباء شهدت أيضا تراجعا في استهلاك الطاقة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة التي فرضتها الشركات الخاصة (وغالبا ما تكون أجنبية) على المستهلكين. فكانت النتيجة تراجعا في مستوى التعليم حيث انخفضت نسبة النجاح في المدارس لاستحالة الاستذكار في المساء أو الليل بسبب عدم توفر الطاقة في المناطق الفقيرة التي لا تستطيع تسديد كلفة الطاقة المخصخصة. لذلك بدأ البنك الدولي مراجعة سياسته في قضية الخصخصة في قطاع الطاقة فلم يعد يفرضها على الدول التي تسعى إلى مساعدات البنك بل أصبح من مروّجي إعادة تأهيل قطاع الطاقة عبر استثمارات جديدة للدولة وبقروض من البنك الدولي ومع تأهيل وتدريب العاملين فيه لتحسين الأداء. غير أن تلك التطوّرات لم يصل خبرها على ما يبدو إلى مروّجي الخصخصة في لبنان سواء على المستوى السياسي أو حتى الجامعي. فمازال هناك من يستميت في الدفاع عن الخصخصة مهما كلّف الثمن! الله أعلم لماذا؟!!!
وأخيرا لا يمكن أن نقبل بدون تدقيق مقولة أن القطاع الخاص أكثر كفاءة في إدارة المرافق العامة بشكل عام. هناك أدلّة كثيرة حتى في الدول المتقدمة تشير إلى أن أداء القطاع الخاص في المؤسسة المخصخصة ليس بالضروري أفضل مما كان عليه سابقا عندما كانت الدولة تدير المشروع. من تلك الأمثال ما نشهده من انتقادات لخصخصة قطاع السكك الحديدية في بريطانيا حيث المسافر يشكو من تدنّي الخدمة. صحيح أن هناك نجاحات في العديد من المؤسسات المخصخصة ولكن هناك أيضا إخفاقات. مثل آخر تدنّي الأداء الخدماتي والمالي لشركة سويس اير المخصخصة. في المقابل أستذكر مسألة تأميم قناة السويس (احتفلنا بالأمس بذكرى ذلك العمل المجيد!) التي انتقدها العديد في الغرب بسبب عدم كفاءة الدولة المصرية في الإدارة التقنية والتنظيمية لعمل من اختصاص الرجل الأبيض! نجاح التأميم ما زال قائما حتى هذه الساعة رغم كل ما حصل ويسجّل للنظام القائم عدم الرضوخ لضغوط خصخصة القناة على الأقلّ حتى الآن!
هنا أودّ أن ألفت النظر أن أدآء الدولة في تقديم الخدمات لم يكن دائما في ذلك المستوى من الردائة الذي نعرفه. فكانت الدولة والمؤسسات التي أنشاها الرئيس الراحل فؤاد شهاب حتى اندلاع الحرب الأهلية تؤمّن الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه ومواصلات إلخ بشكل مقبول وإن كانت هناك إمكانيات لتحسين الأداء. كما أن فترة الحرب القاسية على جميع المواطنين لم تمنع الدولة في استمرار تقديم ما يمكن من الخدمات رغم الصعوبات والتدمير الذي حصل في العديد من المنشئات. ويجب تسجيل ذلك لمصلحتها. من هنا يمكن طرح السؤال من هو المسؤول عن تردّي خدمات الدولة ولماذا؟ فالإجابة على ذلك تسهّل الإجابة على جدوى الخصخصة. النظام السياسي والمحاصاصات والذهنية الريعية والجشع مسؤولون عن التدهوّر المتعمّد لمؤسسات الدولة وجودة خدماتها تمهيدا لفرض الخصخصة.
لذلك فإن موضوع الخصخصة موضوع دقيق وحسّاس للغاية يجب أن يخضع لتدقيق في شروطه. من تلك الشروط وجود دولة القانون والمؤسسات التي لا تخضع لمزاج القيادات السياسية التي لا تقبل بالمسائلة والمحاسبة. كما أن مستوى النمو الاقتصادي عنصر أساسي في تحديد جدوى وإمكانية قيام الخصخصة وفقا لتقديرات دقيقة لمفهوم المصلحة العامة وليست مصلحة النخب والمتنفذّين.
لكن ما العمل في لبنان وهل نستطيع أن نستمر في وضع مأزوم للغاية حيث لا الكهرباء ولا ماء الشرب ولا المواصلات مؤمنة بشكل متوازن في كل المناطق ولجميع المواطنين؟ هل الخصخصة هي أدآة التغيير المطلوب؟ لا أعتقد ذلك وإن كان التغيير في الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي أولوية لا يمكن تجاهلها. إلآ أنّ الإصلاحات الضرورية مغيّبة من الخطاب السياسي للنخب الحاكمة سواء في الحكم أو المعارضة. وأعتقد أن التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي المطلوب في لبنان لن يأتي بفعل القوى السياسية الوطنية ولكنه رهن بالتغييرات التي يمكن أن تحصل في المنطقة وفقا لمسار مختلف الصراعات الإقليمية والدولية. فلبنان –دولة الحاجز- قدره المراوحة اقتصاديا واجتماعيا دون الإقبال على أي تغيير يذكر لما يمكن أن يؤثر على التوازنات الداخلية وبالتالي على مسار الأمور في المنطقة. كما أن التغيير لن يأتي إلاّ إذا حدث تغيير أساسي في المنطقة وهذا مستبعد في المدى المنظور وإن كانت المنطقة حبلى بتطورات جذرية ليست أقلّها استنهاض الشعوب والشعور القومي في محيط مؤجج بالصراعات الطائفية والقطرية. لا داعي هنا للإسترسال في أبعاد الصراع الجيوستراتيجي في المنطقة وتداعياته على الاستقرار الداخلي في لبنان بل ما يهمنا أن نؤكده أن القرارات الاقتصادية السياسية التي يمكن أن تتخذها النخب الحاكمة سواء في الأكثرية أو المعارضة لن تكون إلا مرآة لتوجّهات تعكس التوازنات الإقليمية والدولية. من هنا نفهم غياب الخطاب الإصلاحي، من هنا نفهم تغييب الملفّ الاقتصادي والاجتماعي في خطاب القوى الأساسية في الحكم كما في المعارضة.

No comments: